كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسال الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد} [الأنعام: 27] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني} [المنافقون: 10] وأما وجه الجمع في قوله: {ارجعون} مع وحدة المنادى فقيل: إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال: ارجع مرات ونظيره {ألقيا في جهنم} [ق: 24] أي ألق ألق. وقيل {رب} للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر:
ألا فارحموني يا إله محمد

وقوله:
فإن شئت حرمت النساء سواكم

عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان بل قدومًا إلى الله. وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت» قال جار الله: أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحًا كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أسًا وأبني عليه. وقيل: أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما افسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل: كيف سألوا الرجعة وقد عملوا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئًا مع علمه بتعذره كقول القائل:
ليت الشباب يعود

والاستغاثة بحنس هذه المسألة قد تحسن. قولهم {لعلي} ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر مكنوني لعلي أتدارك مع كونه جازمًا بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله: {كلا} أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة {إنها كلمة} والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله: {ارجعون لعلي أعمل صالحًا} {هو قائلها} لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه {ومن ورائهم} الضمير لكل المكلفين أي أمامهم {برزخ} حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام {إلى يوم يبعثون} وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف: حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله: {فإذا نفخ في الصور} قد مر معناه في أواخر طه.
وقوله: {فلا أنساب بينهم} ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل، فقد يكون أحد القريبين في الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه. عن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء. وأما الجمع بين قوله: {ولا يتساءلون} وبين قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [المؤمنون: 101] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة. ولو سلم أن كليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرها من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس: حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين وعلى جسر جهنم» وقد مر مثل أية الموازين في أول الأعراف فليرجع إلى هنالك. وقوله: {في جهنم خالدون} بدل من {خسروا أنفسهم} ولا محل له كالمبدل فإِن اصللة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس: خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى {تلفح} تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرًا والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته». وقال الجوهري: الكلوح تكشر في عبوس.
ثم بيّن سبحانه أنه قال لهم حينئذ تقريعًا وتوبيخًا {الم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} قالت المعتزلة: لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر. وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله: معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي: أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم.
وأجيب بأن طلب تلك اللذات لابد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله: {وكنا قومًا ضالين} اي في علم الله وسابق تقديره. وحمله المعتزلة على الاعتراف بأ، هم اختاروا الضلال قالوا: ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذرًا لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن عباس: أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة {ربنا أبصرنا وسمعنا} [السجدة: 12] فيجابون {حق القول مني} [السجدة: 13] فينادون ألفًا {ربنا أمتنا اثنتين} [غافر: 11] فيجابون {ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم} [غافر: 12] فينادون ألفًا {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] فيجابون {إنكم ماكثون} [الزخرف: 77] فينادون ألفًا {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} [إبراهيم: 44] فيجابون {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل} [إبراهيم: 44] فينادون الفًا {ربنا أخرجنا نعمل صالحًا} [فاطر: 37] فيجابون {أولم نعمركم} [فاطر: 37] فينادون ألفًا {ربنا أخرجنا منها} [المؤمنون: 6] فيجابون {اخسئوا فيها} [المؤمنون: 108] وهو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله {ولا تكلمون} أي في رفع العذاب وليس نهيًا عن الكلام فإِنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف. ومعنى {اخسؤًا} انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت. يقال: خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية. ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله: {إنه كان فريق من عبادي} هم الصحابة. وقيل: أهل الصفة خاصة. عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد. وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤًا وتشاغلتم بهم ساخرين {حتى أنسوكم} بتشاغلكم بهم على تلك الصفة {ذكرى} فلم تذكروني حتى تخافوني.
ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ {إنهم} بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ {قال} فاضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة، ومن قرأ {قل} فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا {كم لبثتم} تنبيهًا لهم على أن ما ظنوه دائمًا طويلًا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول ايام سرور والثاني ايام غم وخزن. واختلفوا في الأرض فقيل: وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخًا.
وقال آخرون: المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة في ولقوله: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} [الروم: 55] وقوله: {عدد سنين} بدل من مميزكم. وقيل: احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله: {في الأرض} يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتًا في بطن الأرض. فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون {لبثنا يومًا أو بعض يوم} واجيب بأن الجواب لابد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر. ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فصح أن يكون جوابهم {لبثنا يومًا أو بعض يوم} عند أنفسنا. وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا: إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يومًا أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا {فاسأل العادّين} اي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره، أو اسأل الملائكة الذي يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل: أرادوا بقولهم {لبثنا يومًا أبو بعض يوم} تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة غلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال: {إن لبثتم غلا قليلًا} ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله: {لو أنكم كنتم تعلمون} أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلًا. ثم زاد في التوبيخ بقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله: {وأنكم إلينا لاترجعون} معطوفًا على {عبثًا} أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلًا {فتعالى} الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كرامًا. وقرئ {الكريم} بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله: {ما لم ينزل به سلطانًا} [آل عمران: 151] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضًا بين الشرط والجزاء كقول القائل: من أحسن إلى زيدًا لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه.
ومعنى {حسابه عند ربه} أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرئ {أنه لا يفلح} بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع {الكافرون} موضع الضمير. جعل فاتحة السورة {قد افلح المؤمنون} وأورد في خواتيهما {إنه لا يفلح الكافرون} فشتان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون {ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} نبه في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان. اهـ.